فصل: الطرف الثاني فيما يكتب عن القضاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثاني فيما يكتب عن القضاة:

وهو على أربعة أصناف:
الصنف الأول التقاليد الحكمية وهي على مرتبتين:
المرتبة الأولى: أن تفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله:
ثم يقال: أما بعد ثم يقال: ولما علمنا من حال فلان الفلاني كذا وكذا، استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا، فليباشر ذلك ويوص بما يناسب. ثم يقال: هذا عهدنا إليك، وحجتنا عند الله عليك، فاعلم هذا واعمل به، وكتب ذلك عن الإذن الفلاني.
وهذه نسخة تقليد: الحمد لله الولي الحميد، الفعال لما يريد، نحمد على ما أولانا من إحسانه فهو المولى ونحن العبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توصلنا إلى حنة نعيمها مقيم، وتقينا من نار عذابها شديد أليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه المشتملين على الطاعة والقلب السليم، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن مرتبة الحكم لا تعطى إلا لأهلها، والأقضية لا ينتصب لها إلا من هو كفء لها، ومن هو متصف بصفات الأمانة والصيانة، والعفة والديانة؛ فمن هذه صفته استحق أن يوجه ويستخدم، ويترقى ويتقدم.
ولما علمنا من حال فلان الفلاني الأوصاف الحميدة، والأفعال السديدة، فإنه قد حوى المعرفة والعلوم، والاصطلاح والرسوم، وجمعت فيه خصال حملتنا على استنابته، وقوتنا على نيابته- استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا.
فليباشر ذلك متمسكاً بحبل الله المتين، {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وليجهد في إقامة الدين وفصل الخصومات، وفي النظر في ذوي العدالات والتلبس بالشهادات ولإقامة البينات؛ فمن كان من أهل العدالة نزهاً، وإلى الحق متوجهاً، فليراعه ويقدمه على أقرانه، ومن كان منهم خلاف ذلك فليقصه ويطالعنا بحاله. ولينظر في أمر الجوامع والمساجد ويفعل في ذلك الأفعال المرضية، وفي أموال الأيتام يصرف منها اللوازم الشرعية؛ فمن بلغ منهم رشيداً أسلم إليه ما عساه يفضل له منها ويقرر الفروض، ويزوج الخاليات من الأزواج والعدد والأولياء، من الأزواج الأكفاء، ويندب لذلك من يعلم ديانته، ويتحقق أمانته، ويتخير لكتابة الصكوك من لا يرتاب بصحته، ولا يشك في ذيانته وخبرته، وينظر في أمر المتصرفين، ومن عنده من المستخدمين؛ فمن كان منهم على الطريقة الحميدة فليجره على عادته، وليبقه على خدمته، ومن كان منهم بخلاف ذلك فليستبدل به وليقصه.
هذا عهدي إليك، وحجتي غداً عند الله عليك؛ فاعلم هذا واعمل به.
وكتب ذلك عن الإذان الكريم الفلاني، وهو في محل ولايته وحكمه وقضائه، وهو نافذ القضاء والحكم ماضيها في التاريخ الفلاني. ثم يكتب الحاكم علامته والتاريخ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهذه نسخة تقليد: الحمد لله الحكم العدل الهادي عباده صراطاً مستقيما، الحاكم الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً، المثيب من قدم لم الطاعة من قبل إن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، الرقيب على ما يصدر من أفعالهم فلا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه والٍ.
أحمده علة نعمه التي تنشئ السحاب الثقال، وأستعيذه من نقمه التي يرسلها فيصيب بها من يشاء من عباده وهو شديد المحال، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفيد المخلص بها في الإقرار النجاة يوم المآل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي نعته بأكرم الشيم وأشرف الخصال، وعرفه بما يجب من عبوديته فقال: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال}، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه في الأقوال والأفعال، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن من حسنت سريرته، وحمدت سيرته، وعرف بورع وشهر بعفاف، وديانة وخير وإنصاف، وأضحى نزه النفس عن الأمور الدنية، فقيهاً درباً بالأحكام الشرعية، عارفاً بالأوضاع المرضية- استحق أن يوجه ويستخدم، ويرقى ويتقدم.
ولما علمنا من حال فلان الفلاني من الأوصاف الحميدة، والأفعال السديدة- استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه كذا وكذا.
فليكن متمسكاً معتصماً بحبل الله القوي المتين، {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وليباشر ما قلدناه- أعانه الله سبحانه وتعالى- ويراع حقوق الله تعالى في السر والعلانية: فإنه معين من استعان به وتوكل عليه، وهادي من استرشده وفوض إموره إليه.
وليجتهد في فصل الأحكام بين المتنازعين، والمساواة في العدل بين المتحاكمين؛ قال الله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وأن يثبت في الخصومات، ويفرق بين الحقائق والشبهات، وينصف كل ظالم من ظالمه بالشريعة المحمدية، ليكون ذلك سبباً للسعادة الأبدية، وينظر في أمر الشهود: فمن كان منهم نزهاً، وإلى الحق متوجهاً، فليراعه، ومن كان منهم غير ذلك طالعنا بحاله، وينظر في أمر الجوامع والمساجد معتمداً في ذلك قول الله العزيز القاهر: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}.
وينظر في أمر الأيتام، ويحتاط على ما لهم من الأموال، ويفعل في ذلك على جاري عادة أمثاله من الحكام: من نفقة وكسوة ولوازم شرعية؛ فمن بلغ منهم رشيداً أسلم إليه ما فضل من ماله بالبينة المرضية، ويقرر الفروض على مقتضى قول الله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}، ويزوج النسوة الخالية من العدد والأولياء، ممن رغب فيهن من الأكفاء، ويندب لذلك من يعلم أمانته وخبرته، وينظر في أمر المتصرفين: فمن كان منهم على الطريقة المأثورة أجراه على عادته، وأبقاه على حكمه وخدمته، ومن كان منهم خلاف ذلك يبعده ويقصيه، ويستبدل به ليبقى مكانه وفي تصرفه.
هذا عهدي إليك، وحجتي يوم القيامة عند الله عليك؛ فلتعلم ذلك وتعمل به إن شاء الله تعالى. ويؤرخ، ويكون ذلك بخط الحاكم ويكتب: وحسبنا الله ونعم الوكيل ويتوجه بعلامته الكريمة.
وهذه نسخة تقليد: الحمد لله ذي الفضل والسخاء، واللطف في الشدة والرخاء، الذي من تواضع إليه ورفعه، ومن أعطاه نفعه، ومن أخلص له في العبادة أمال عنه كيد الشيطان ودفعه، الذي أحاط علمه بالموارد والمصادر، واستوت عنده أحوال الأوائل والأواخر، واطلع على ضمائر النفوس ولا ينبغي لغيره أن يطلع على الضمائر، الخافض الرافع، والمعطي المانع؛ فإليه الأمر والتدبير، المقسط الجامع: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}.
أحمده حمداً يقضي للسعادة بالتيسير، وأشكره شكراً يسهل من المآرب العسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والكتاب المنير، وجعله للأمة خير بشير ونذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته شهادة يحل المخلصون بها جنة {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير}.
أما بعد، فإن من كان عارفاً بأحكام الشريعة، متهيئاً لنيل درجاتها الرفيعة، مستنداً إلى بيت مشكور، وقدر موفور، قلد الأحكام الدينية، ليعمل فيه بالشريعة المحمدية.
ولما علمنا فلان بن فلان بن فلان بن فلان الفلاني، قلدناه كذا وكذا.
فباشر أعانك الله: محافظاً على تقوى الله الذي إليه المرجع والمصير، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {والله بما تعملون بصير}. واستشعر خيفة الله واجعلها نصب عينك، وتمسك با لحق واجعله حجابا بين النار وبينك، وانتصب لتنفيذ الأحكام انتصاب من يراقب الله ويخشاه، وحاسب نفسك محاسبة من يتحقق أنه يطلع عليه ويراه، وآبذل في إنصاف المظلوم من الظالم وسعك، ورحب للمتحاكمين ذرعك، وآنظر في أمر الشهود وحذرهم أن يزغوا عن الحق، وحاسبهم فيما جل ودق، ولاترخص لهم، وألزمهم أن يتخذوا الصدق منطقهم، وآنههم عن التسمح فيها، وعرفهم التحرز عما يؤدي من التهمة والتطرق إليها، وانظر في أمر المتصرفين بباب الحكم العزيز نظراً يؤدي إ لى صلاحهم، ولا تعول في النيابة عنك إلا على من تختاره وترتضيه، ولا تعرج إلى من هو مستند إلى غاية ولا تمل إليه، وانظر في أمر الأ حباس نظراً يحفظ أصولها، ولا تراع في استخلاص ما يتعين لها كبيراً ولا صغيراً، ولا تعامل فيها إلا ذوي الوفاء واليسار، وارفض معاملة من يستند إلى العدم والإعسار، وافعل ما يفعله مثلك من الحكام، من إ نشاء العدالة والفسخ والإنكاح وغير ذلك فقد قلدناك هذه الأحكام؛ فإن علمت فيها بتقوى الله تعالى وطاعته يعينك على ذلك، وإن عملت غير ذلك فأنت والله هالك ثم هالك واستمع نصيحتي، وافعل ما تبرد به جلدتك وجلدتي، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثانية: كتابة التقليد بصيغة كتاب:
قلت: وربما كتب التقليد بصيغة كتاب، مثل أن يكتب إلى الذي يتولى على قدر مرتبته، من: صدرت هذه المكاتبة أو: هذه المكاتبة ثم يقال: تتضمن إعلامه أن المجلس الفلاني بلقبه، ويدعى له: لما علمنا من حاله كذا وكذا- استخرنا الله تعالى وفوضنا إليه الحكم والقضاء بمكان كذا، فليباشر ذلك على نحو ما تقدم في التقليد الذي قبله.
الصنف الثاني: إسجالات العدالة:
قد جرت العادة أن أبناء العلماء والرؤساء تثبت عدالتهم على الحكام، ويسجل لهم بذلك، ويحك الحاكم بعدالة من تثبت عدالته لديه، ويشهد عليه بذلك، ويكتب له بذلك في درجٍ عريضٍ، أما في قطع فرخة الشامي الكاملة، وأما في نحو ذلك من الورق البلدي، وتكون كتابته بقلم وأسطره متوالية، وبين كل سطرين تقدير عرض أصبع أو نحو ذلك.
قلت وهذه نسخة سجل أنشأته، كتب بها لولدي نجم الدين أبي الفتح محمد، وكتب له بها عند ثبوت عدالته، على الشيخ العلامة ولي الدين أحمد، ابن الشيخ الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي، خليفة الحكم العزيز بمصر والقاهرة المحروستين، في شهور سنة ثلاث عشرة وثمانمائة وهي:
الحمد لله الذي أطلع نجم العدالة من سماء الفضائل في أفق معاليها، وأنار بدراري العلماء من حنادس الجهالة مدلهم لياليها، وكمل عقود النجابة من نجباء الأبناء بأغلى جواهرها وأنفس لآليها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة ترقي قائلها إلى أرفع الذرا، ويمتطي منتحلها صهوة الثريا: وإن لنرجو فوق ذلك مظهرا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بمحاسن الشيم، والموصوف بكرم المآثر ومآثر الكرم، صلى الله عليه وعلى أله وصحبه اللذين تمسكوا من عرا الدين بالسبب الأقوى، وسلكوا جادة الهداية فحصلوا من أقصى مغياها على الغاية القصوى، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فلما كانت العدالة هي أس الشريعة وعمادها، وركنها الأعظم في الاستناد إلى الصواب وسنادها، لا تقبل دونها شهادة ولا رواية، ولا يصح مع عدمها إسناد أمر ولا ولاية- فقد بنيت الشريعة المطهرة على أركانها، واعتمد الرواة في صحة الأخبار على أصولها وتعلقت الحكام في قبول الشهادة بأحضانها، إذ هي الملكة الحاملة على ملازمة التقوى، والحفيظة المانعة من الوقوع في هوة البدع المتمسك بسببها الأقوى، والحكمة الثانية عن الجماح إلى ارتكاب الكبائر، والعنان الصارف عن الجنوح إلى الإصرار على الصغائر، والزمام القائد إلى صلاح أعمال الظواهر وسلامة عقائد الضمائر.
ولما مجلس القاضي الأجل، الفقيه، الفاضل، المشتغل، المحصل، الأصيل، نجم الدين، سليل العلماء، أبو الفتح محمد بن فلان القلقشندي الفزاري، الشافعي، خليفة الحكم العزيز بالقاهرة المحروسة والده، والحاكم بالعمل الفلاني وما معهما: أيد الله تعالى أحكامه، وأقر عينه بولده، هو الذي ولد على فراش الديانة، وظهرت عليه في الطفولية آثارها، ونشأ في أحياء الصيانة، فرويت عنه بالسند الصحيح أخبارها، وارتضع ثدي العلم حين بزوغ نجمه، وغذيه مع لبان أمه فامتزج بدمه ولحمه وعظمه، وأعلن منادي نشأته بجميل الذكر فأغنى فيه عن الاستخبار، ولاحت عليه لوائح النجابة فقضى له بالكمال قبل أن يبلغ قمر عمره زمن الإبدار: فلم يرد منهل التكليف إلا وقد تزين من محاسن الفضائل بأكمل زين، ولم يبلغ مبلغ العلم حتى صار لوالده ولله الحمد- قرة عين- رفعت قصة مخبرة عن حاله فيها من مضمون السؤال طلب الإذن الكريم بسماع بينة المذكور، وكتابة إسجال بعدالته، فشملها الخط الكريم العالي، المولوي، القاضوي، الإمامي، العالمي، العاملي، العلامي، الشيخي، المحدثي، الحافظي، الحبري، المجتهدي، المحققي، المدققي، الوحيدي، الفريدي، الحجي، الحججي، الخطيبي، البليغي، الحاكمي، الجلالي، الكناني، البلقيني، الشافعي، شيخ الإسلام، الناظر في الأحكام الشرعية بالديار المصرية، والممالك الشريفة الإسلامية: أدام الله تعالى أيامه، وأعز أحكامه، وأحسن إليه، وأسبغ نعمه في الدارين عليه- لسيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العالم، الحافظ، ولي الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي زرعه أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين، شيخ الإسلام، قاضي المسلمين، أبي الفضل عبد الرحيم، ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى بدر الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي عبد الله الحسين العراقي الشافعي، خليفة الحكم العزيز بالقاهرة ومصر المحروستين، والحاكم بالأعمال المنوفية، ومفتي دار العدل الشريف بالديار المصرية: أيد الله تعالى أحكامه، وأحسن إليه بالنظر في ذلك على الوجه الشرعي. فحينئذ سمع سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام، العالم، الحافظ، ولي الدين، الحاكم المشارإليه: أحسن الله تعالى إليه- البينة بتزكيته، وصرحت له بالشهادة بعدالته، وقبلها، القبول الشرعي السائغ في مثله. ثم أشهد على نفسه الكريمة من حضر مجلس حكمه وقضائه، وهو نافذ القضاء والحكم ماضيهما، وذلك في اليوم المبارك يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شهر رجب الفرد سنة ثلاث عشرة وثمانمائة- أنه ثبت عنده وصح لديه: أحسن الله إليه- على الوضع المعتبر الشرعي، والقانون المحرر المرعي، بالبينة العادلة المرضية، التي تثبت بمثلها الحقوق الشرعية- عدالة القاضي الأجل، العدل، الرضي، نجم الدين محمد المسمى أعلاه: زاده الله تعالى توفيقا، وسهل له إلى الخير طريقاً، وما اشتمل عليه من صفاتها، وتحلى به من أدواتها، ثبوتاً صحيحاً معتبراً، مستوفى الشرائط محرراً. وأنه- أيد الله تعالى أحكامه، وسدد نقضه وإبرامه- حكم بعدالته، وقبول شهادته، حكماً تاماً وجزمه، وقضى فيه قضاءً أبرمه، وأذن له- أيد الله تعالى أحكامه- في تحمل الشهادة وأدائها، وبسط قلمه في سائر أنديتها وأرجائها، وأجراه- أجرى الله تعالى الخيرات على يديه- مجرى أمثاله من العدول، ونظمه في سلك الشهداء أهل القبول، ونصبه بين الناس شاهداً عدلاً إذ كان صالحاً لذلك وأهلاً. فليبسط بالشهادة قلمه، وليؤلف على شروط أدائها كلمه، وليحمد الله تعالى على ما منحه من ملابسها الجميلة، وأناله من الترقي لرتبتها الجليلة، وليتق الله تعالى في موارده ومصادره، وليسلك مسالك التقوى في أول أمره وآخره، وليعلم أن من سلك الحق نجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا. أوزعه الله تعالى شكر هذه الرتبة العلية، والمنزلة السنية. وتقدم أمر سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى الشيخ الإمام، العالم، الحافظ، ولي الدين، الحاكم المذكور، وقاه الله تعالى كل محذور، بكتابة هذا الإسجال، فكتب على إذنه الكريم، متضمناً لذلك مسؤولاً فيه، مستوفياً شرائطه الشرعية، وأشهد على نفسه الكريمة بذلك في التاريخ المقدم ذكره بأعاليه، المكتوب بخطه الكريم- شرفه الله تعالى؛ حسبنا الله ونعم الوكيل. قلت: والعادة أن يعلم فيه الحاكم علامة تلو البسملة، ويكتب التاريخ في الوسط، والحسبلة في الآخر، كل ذلك بخطه، ويشهد عليه فيه من يشهد عليه من كتاب الحكم وغيرهم، كما في سائر الإسجالات الحكمية. الله ونعم الوكيل. قلت: والعادة أن يعلم فيه الحاكم علامة تلو البسملة، ويكتب التاريخ في الوسط، والحسبلة في الآخر، كل ذلك بخطه، ويشهد عليه فيه من يشهد عليه من كتاب الحكم وغيرهم، كما في سائر الإسجالات الحكمية.
الصنف الثالث: الكتب إلى النواب وما في معناها:
واعلم أن الكتب التي تكتب عن القضاة ألفاظها مرسلة، لا جنوح فيها إلى فن البلاغة والسجع إلا في القليل النادر وهذه نسخة كتاب كتب به عن قاضي القضاة فخر الدين الشافعي، إلى الحكام بالمملكة؛ وهو: أدام الله فضائل الجنابات العالية والمجالس العالية، وجعلهم قادة يقتدى بهم في القول والعمل، والاحتفال من يعتنى بأمره ويحتفل، ولا سيما من سارت طريقة فضله المثلى في الآفاق سير المثل؛ ولا زال عرف معروفهم على ذوي الفضائل يفوح، وجياد جودهم تغدو في ميدان الإحسان وتروح، ونيل نيلهم يسري إلى القصاد فيحمد سراه عند الغبوق كما يحمد سراه عند الصبوح. هذه المكاتبة إليهم تقريهم سلاماً ألطف من النسيم، وتهدي إليهم ثناءً مزاج كاتبه من تسنيم، وتبدي لعلومهم الكريمة أن الجناب الكريم، العالي، الشيخي، الإمامي، الفاضلي، البارعي، الأوحدي، الأكملي، البليغي، المقدمي، الخطيبي، البهائي، أوحد الفضلاء، فخر العلماء، زين الخطباء، قبلة الأدباء، قدوة البلغاء، صفوة الملوك والسلاطين، خطيب الموصل- أدام الله المسرة به، ووصل الخير بسببه، ونفع بفوائد فضله وأدبه- ورد علينا بطرابلس المحروسة، فحصلت المسرة بذلك الورود، وتجدد بخدمته ما تقدم من وثيق العهود، وأبدى لنا من نظره الفائق الرقيق، وإنشائه المغني عن نشوة الرحيق، وكتابته التي هي السحر الحلال على التحقيق، ما نزه الأبصار وشنف الأسماع، وقطع من فرسان الأدب أسباب الأطماع، فأزال عن القلب الكئيب فكراً، وأخجل من الروض الأنيق زهراً، وأخمل من المسك السحيق عطراً؛ وكيف لا؟وهو النفيس الذي جمع فيه قديم الأدب وحديثه، والجليس الذي لا يسأم كلامه ولا يمل حديثه؛ يا له أديباً ليس فيما يبديه من الأدب تحريف ولا غلط، وفاضلاً لو لم يكن بحراً لما كان الدر من فيه يلتقط؛ يمينه وفطنته الكريمتان ذواتا أفنان: فهذه إن رقمت طرساً فروح وريحان، أو بذلت براً فعينان تجريان، وهذه إن نظمت شعراً فياقوت ومرجان، أو نثرت تبراً فثمين الدر ألوان؛ ما برح الفضلاء إلى لقائه يسارعون، وحق لهم أن يسارعوا ومن أبواب معروفه يقتبسون؛ وكيف لا؟ وهو الشهاب الساطع، والجليل الذي لم نزل نشير إليه بالأصابع، والنبيل الذي تجري لفراقه من عيون اللبيب المدامع، والنزيل الذي ينشده العارف عن وداعه:
بعيشك خبرني متى أنت راجع يعرف المحسن إحسانه فينشر له من الثناء لواء، ويجل في مدح صفاته ونعوته الإنشاء إن شاء، ويجزل في ذم مستحق الذم منه الهجاء، فأكرم به مداحاً وأعظم به هجاء: العلماء لحضوره يترقبون، وإليه يتقربون، والفضلاء بفضله يعترفون، ومن بحره يغترفون، والأدباء إليه يستبقون، ومنه يقتبسون، والطلبة بأذيال فضله يتمسكون، وبنشر أثنيته يتمسكون، وإخوانه في الله بوجوده يفتخرون، وإلى جوده يفتقرون؛ كلما عرضت لهم حاجة تمسكوا بإيثاره، وكلما عاندهم الدهر سألوه الإمداد بأنصاره، فيجود في خدمتهم بيان بنانه، ويجرد في نصرتهم سيف لسانه. ثم من قبل أن نبلغ منه الوطر، ومن دون أن يكتفي منه السمع والبصر، عرفنا أنه قصد التوجه إلى البلاد الساحلية، والأعمال الطرابلسية؛ ليملي على أهلها من فضائله الباهرة الباسقة، وألفاظه التي هي كالدرر المتناسقة، ويجليهم عرائس الأفكار من أفكاره، ويجنيهم غرائس الأثمار من أشجار علمه، ويريهم البديهة البديعة، والقوافي المجيبة المطيعة. فليتقدم الجماعة- أيدهم الله تعالى- بإكرامه إكرام الأهل والأصحاب، وتلقيه بالبشر والطلاقة والترحاب، وإحلاله من الإحسان محلاً سامياً، وإنزاله من الإفضال منزلاً عالياً والاعتناء الوافر بأمره، واستجلاب بث حمده وشكره، والتقاط درر فوائده، واكتسلب غرر فرائده، والإصغاء إلى المنثور والمنظوم من أقواله، والتعجب من حسن بداهته وسرعة ارتجاله. وليحتفل كل يوم بخدمته غاية الاحتفال، ويعتن بأمره اعتناء لا يشاركه تقصير ولا إهمال، ويرعى له حق الضيف الجليل، والقادم الذي إذا رحل عن بلده أبقى له بها الذكر الجميل، ويساعد على ما توجه بصدده كل ساعة يعود نفعها عليه، وينفق مما آتاه الله ويحسن كما أحسن الله إليه. ونحن نؤكد على الجماعة- أيدهم الله- في ذلك كل التأكيد، ونبالغ فيه مبالغة ما عليها من مزيد، ونحذرهم من الإهمال والتسويف والتقصير، ومن مقابلة جنابه الكريم بالنزر الحقير والقدر اليسير؛ فإكرام هذا الرجل ليس كإكرام من لم يسر بسيره، وما هو إلا لعلمه وفضله وخيره، وفد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: وليس من يكرم لنفسه كالذي يكرم لغيره.
فلتعظموه كل التعظيم وتنزلوه منزلة تليق بأهل الفضل والإفضال، وترفعوا له المقام وترفع له المقال، ليعود محقق الآمال مبلغ المقاصد، ناشراً ألوية الثناء والمحامد، مشمولاً بجميل الصلة والعائد؛ ونحن منتظرون ما يرد عنه من مكاتباته الكريمة بما وصل إليه من المنازل الحسنة.
وفي هممهم العلية، ومكارمهم السنية، ما يغني عن التأكيد بسببه والوصية؛ والله تعالى يديم عليهم سابغ الإفضال والإنعام، ويجمل بوجودهم وجودهم الأحكام والحكام، بمنه وكرمه.
الصنف الرابع: ما يكتب في افتتاحات الكتب:
فمن ذلك ما يكتب في أوائل كتب الأوقاف وهذه نسخة خطبة في ابتداء كتاب وقف على مسجد؛ وهي: الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إنه لا يخلف الميعاد، وناصر الدين المحمدي بنبينا صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام الأمجاد، ومشرف هذه الأمة بالأئمة والجمعة والجماعات من أهل الرشاد، وجاعل من ارتضاه من أرباب سنة نبيه المختار من عباده العباد، ومسير القربات إليه لأهل السداد، ومريد الأعمال الصالحات ممن أخلصه بالطاعات ومزيد الإرفاد، ومفضل الأوقاف على أفضل وجوه البر من جعله للخير أهلاً بالنفع المعتدي وكثرة الأمداد، ومعظم الأجر لمن بنى بيتاً لله بنية خلية من الرياء والعناد؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له به قصراً في الحنة» ونرجو من كرم الله الازدياد.
أحمده على مواد نعمه التي جلت على التعداد، وأشكره شكراً وافياً وافراً نجعله ذخيرة ليوم التناد، وأستمد من اللطف لوازم الفضل الخفي وهو الكريم الجواد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله الخاتم الحائم على حوضه الوارد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أصغي إلى الذكر وأجيب كل داع من حاضر أو باد.
وبعد، فلما كانت المثوبات مضمونة الأجر عند الكريم، والأعمال متعددة في التقديم، وكان بنيان المساجد وافراً أجراً، لمن أقام بواجب تبيان الظن الجميل وسدد إلى الخيرات سيراً؛ وقد قال تعالى: «أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي خيراً»، ورأى العقلاء أن الأوقاف على المساجد والجوامع من أنفس قواعد الدين وأعلى- فلذلك قيل في هذا الإسجال المبارك: هذا ما وقفه وحسبه، وسلبه وأبده فلان. وقف وحبس رغبة في مزيد الثواب، ورجاء في تهون تهويل يوم الحساب، واغتناماً للأجر الجزيل من الكريم الوهاب، لقول الله تعالى في الآيات المبرورة: من ذا الذي يقرض الله قرضاَ حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة. وقف بنية خالصة، وعزيمة صالحة، ونية صادقة، ما هو له وفي ملكه، وحوزه ويده وتصرفه، من غير مناظر له في ذلك ولا شريك، ثم يذكر الوقف.